الصيام لغة: الإمساك عن الشئ والترك له، ومنه قيل للصمت: صوم؛ لأنه إمساك عن الكلام، قال الله تعالى (إنى نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم أنسياً) [مريم: 26].
قال أبو عبيده(1): كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم"(2).
أما شرعاً فهو: عبارة عن إمساك مخصوص، وهو الإمساك عن الأكل والشرف والجماع من الصبح إلى المغرب مع النية(3).
ويقال أيضاً: الإمساك عن المفطرات الحسية والمعنوية جميع النهار بنية.
علاقة الصيام بالأخلاق
الصوم من شرائع الإسلام العظيمة التى شرعها الله تعالى للأمة الإسلامية كما شرعة على من قبلها، وهو من الشرائع الرامية إلى تزكية النفس ورياضيتها على مكارم الأخلاق من القناعة والزهد والأمانة، والبعد عن رذائلها من الجشع والخيانة والسباب والفواح التى تنافى الصوم.
قال العلامة جمال الدين القاسمى(4): "إعلم ان مصالح الصوم لما كانت مشهودة بالعقول السليمة، والفطر المستقيمة شرعه الله لعباده رحمة لهم، وإحساناً إليهم وحمية وجنة، قال: فإن مقصود الصيام حبس النفس عن الشهوات، وفطمها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية لتسعد بطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية، ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وسورتها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين، وتضييق مجارى الشيطان من العبد، بتضييق مجارى الطعام والشراب، وحبس قوى الأعضاء من استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها فى معاشها ومعادها، ويسكن كل عضو منها، وكل قوة عن جماحها، وتلجم بلجامه فهو لجام المتعين، وجنة المجاهدين، ورياضة الأبرار المقربين، وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال، فإن الصائم لا يفعل شيئاً، إنما ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وملذوذاتها إيثاراً لمحبة الله ومرضاته، وهو سر بين العبد وربه لا يطلع عليه سواه"(5).
قلت: وهذا ما يدل عليه قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ - [البقرة: 183]
إذ دلت الآية على أن الصوم يورث التقوى، كما يفيده تعليل فريضة الصوم به، والمعنى: ليحصل لكم التقوى بالصوم فإنه يورث التقوى لما فيه من انكسار الشهوة، وانقماع الهوى، فإنه يردع عن الأشر والبطر والفواحش، ويهون لذات الدنيا ورياستها، ويكسر شهوة البطن والفرج، وذلك جامع لأسباب التقوى، قال الفخر الرازى: " فيكون معنى الآية: فرضت عليكم الصيام لتكونوا به من المتقين الذين أثنيت عليهم فى كتابى"(6). "ولعل فى مقام الله جل جلاله تفيد الوجوب، لأنها وإن كانت للترجى والإطماع فى أصل وضعها، إلا أنه إطماع من كريم فيجرى مجرى وعده المحتوم وفاؤه"(7).
والتقوى التى يثمرها الصوم قد علق الله تعالى عليها خيرات عظيمة، وسعادات جسيمة فى كتابه العزيز، منها: معيته التى تعنى الحفظ واللطف كما قال تعالى: وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ - [البقرة: 194].
ومنها: العلم اللذنى كما قل جل شأنه: وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ - [البقرة: 282].
ومنها: المخرج من كل شدة، وتيسير الرزق من حيث لا يحتسب المرء كما قال تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ - [الطلاق: 2-3].
ومنها: تكفير السيئات وتعظيم أجر الحسنات كما قال سبحانه: ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً - [الطلاق: 5].
إلى غير ذلك من الخيرات الجسيمة المترتبة على التقوى التى أشار إليها القرآن الكريم والتى جعل الصيام من أسباب حصولها، لكونه موجباً لاتقاء المعاصى؛ لأنه يعدل القوى الطبيعية التى هى داعية الفساد، فيرتقى المسلم به عن حضيض الانغماس فى المادة إلى أوج العام الروحانى، فهو وسيلة للارتياض بالصفات الملكية، والانتفاض من غبار الكدرات الحيوانية(9).
عناية القرآن الكريم بالصيام
ولأجل ذلك الأثر العظيم الذى يثمره الصوم فى ذكاء الأخلاق، كانت عناية القرآن الكريم به كبيرة إيجاباً له فى رمضان وفى غيره، وحثاً عليه، وتنويهاً بأهله فى آيات كثيرة.
إيجاب الصيام فى القرآن الكريم:
أما إيجاب الصيام فإنه لما كان على ذلك النحو من عظمة الأثر فى تزكية الأخلاق، وترويض النفس على مكارمها، وكان شاقاً على النفس لما فيه من كبح لجماحها، واسترسالها فى اللذات والشهوات، أو لما يشغلها عنه من واجبات الحياة، المقتضية لإشباع البطن بما تحتاجه من الأكل ونحوه، فكانت الدواعى إلى تركه قائمة وكبيرة، مع عظيم أهميته وبالغ أثره وكبير ثمرته.
لما كان الأمر كذلك، جعل الله تعالى الصيام فريضة إلزامية، وركناً رابعاً من أركان الإسلام فقال تعالى: َا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ - [البقرة: 183-185].
ففى هذه الآيات يبين الله تعالى لعبادة أنه افترض عليهم الصيام فى أيام معدودات قلائل، هى شهر رمضان، الذى اختصه من بين الشهور بإنزال القرآن فيه، وبليلة القدر التى هى خير من ألف شهر.
وقد بين افتراضه عليهم أولاً بأسلوب الخبر، وثانياً: بصيغة الأمر، وذلك للدلالة على أهمية ذلك المفترض وحتميته، ولذلك لم يكن لأحد عذر فى ترك صيام هذا الشهر إلا إلى بدل من صيام أيام أخر، أو فدية إطعام بعدد الأيام عند العجز عن الصيام كلية، لكبر أو مرض مزمن لا يرجى برؤه، وفى تكرار التنصيص على (عدة من أيام أخر) عند العجز عن صيام أيام رمضان كلها أو بعضها، دلالة على تأكيد طلب الشارع له، وعدم تنازله عن مطالبة المسلمين به إلا فى حالة العجز المستمر من كبر أو مرض أو حمل أو إرضاع، كما دلت عليه السنة، فعندئذ أجاز الانتقال إلى الفدية، وذلك لما فى الصوم من عظيم الفائدة فى إصلاح النفس البشرية واستقامة أحوال الأمة الإسلامية.
حثه عليه:
ولذلك لم يفتأ يذكرهم بهذه الفائدة حيث يقوم فى علية الصوم (لعلكم تتقون) (لعلكم تشكرون)، ويرشد أهل الأعذار بترك الصيام بقوله: (وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون)، أى عظيم الأجر وجليل ثمرة الصوم فى استقامة الأحوال وكرم الأخلاق.
ويقول لهم: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) للدلالة على أنه ما حمله على الترخيص بالإفطار عند الأعذار، إلا إرادة اليسر بهم تمشياً مع أصل منهجه فى تيسير الشريعة، وإلا لم يكن ليعدل عن طلبه بالذات حتى عند العجز عنه، لما يعلمه فيه من عظيم الأجر والأثر فى الدنيا والآخرة والله أعلم.
إيجابه فى غير رمضان ليكون كفارة عن الإساءات
ولما كان الصيام بهذه المثابة من عظيم الفائدة وجزيل العائدة، اختاره الشارع لأن يكون كفارة وجبراً لبعض الإساءات المخلة بالدين، التى قد يرتكبها المرء فى حياته فى عباداته أو معاملاته أو سلوكه، وذلك ليهذب النفوس ويربيها على عدم العودة إلى مثل تلك الإساءات، لما فى الصوم من كبح لزمام النفس الأمارة بالسوء، وإعادة لها إلى الطهارة والنقاء والتزكية، إن كان مستوفياً لشروطه وآدابه الآتى بيانها فى التطبيق إن شاء الله تعالى.
ففى ما يتعلق بالإساءة فى العبادات، وذلك فى الحج، أوجبه فى موضعين:
الموضوع الأول: فى الإساءة فى الحج بارتكاب محظور من محظورات الإحرام كالحلق ونحوه، أو قتل صيد الحرم، أو أى صيد برى وهو محرم.
الموضع الثانى: عند الترفه فى الحج بالتمتع أو القران(10) حيث يعجز عن الهدى.
أما الموضع الأول، وهو الإساءة فى الحج بفعل محرم من محرماته التى هى من باب الإزالة أو الترفه كالحلق والطيب ونحوهما(11)، فقد أوجب الله تعالى جبر ذلك بواحد من ثلاثة أشياء على التخيير: الصيام أو الإطعام أو الذبح، وذلك بقوله سبحانه: َمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ - [البقرة: 196].
فجعل الصيام أولها؛ لأنه أعظم الثلاثة أثراً فى استقامة السلوك فى المستقبل، إضافة إلى عظم أجره، وهذا فيما إذا كانت الإساءة بفعل شئ يتعلق بجسده.
أما إذا كانت الإساءة بفعل محرم من محرمات الإحرام المتعلقة بغيره، مما يؤذن انتهاكها بعدم تعظيمه لشعيرة الحرم أو الإحرام، وذلك كقتل صيد البر وهو محرم، أو قتل صيد الحرم مطلقاً، فقد أوجب الله تعالى واحداً من ثلاثة أمور مرتبة: هدياً بالغ الكعبة إن كان الصيد مما له مثل فى بهيمة الأنعام، فإن لم يكن له مثل فيقوم الصيد اثنان ذوا عدل، ويخرج القيمة فيشترى بها طعاماً يصرفه على مساكين الحرم، لكل مسكين مد.
فإن عجز عن ذلك عدل إلى الصيام فيصوم بعدد الإمداد التى تبلغها القيمة المقدرة للصيد مهما بلغت كثرة، كما دل على ذلك قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ - [المائدة: 95].
فجعل الصيام واحداً مما يفدى به عن تلك الإساءة، وجعله منوطاً بعدد الإمداد التى كان يمكن للقيمة المقدرة لو وجدت أن تشتريها، ومعلوم أنه قد يكون الطعام رخيصاً كما فى هذه الأيام، فكم تبلغ الإمداد لو كانت القيمة مائة أو مائتين أو أكثر؟ لاسيما مع ارتفاع أسعار مثل هذه الحيوانات البرية من صيد ونحوه كما هو معلوم وملموس.
لذلك كان هذا الجزاء وبالاً على صاحبه، أى ثقيلاً وشديداً عليه، ولكنه يتلاءم مع سوء الصنيع الذى اقترفه من هتك حرمة الحرم أو الإحرام.
وإنما اختار الله هذا الجزاء الثقيل ليكون ثوابه جابراً لما انتهك من حرمة، وليقوم سلوك المرء مستقبلاً، ولذلك إذا لم يستقيم سلوكه بعد هذا الجزاء المؤلم الثقيل فعاد إلى انتهاك حرمة الإحرام، فإن الله تعالى قد آذنه بعقوبة لا طاقة له بها، وهى الانتقام (ومن عاد فينتقم الله منه) لأنه بعدئذ يكون معوج السلوك، لا يصلح إلا بالجزاءات الرادعة المربية، وصدق الله إذ يقول: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ - [المائدة: 50].
أما الموضع الثانى، وهو ما إذا عجز عن هدى التمتع ومثله القرآن، فإن الله تعالى قد جعل له بدلاً عن ذلك، وهو صيام ثلاثة أيام فى الحج وسبعة إذا رجع إلى بلده كما قال سبحانه: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ - [البقرة: 196].
فجعل الصيام بدلاً عن الهدى عند فقده أو العجز عنه، لما فى الصيام من الكفاية والسداد لما يؤديه الهدى من الجبران، ولذلك قال: (كاملة) "أى: كاملة فى الثواب لسدها مسد الهدى فى المعنى الذى جعلت بدلاً عنه"(12).
فانظر كيف جعل الصيام جابراً لما يقع فى النسك من تقصير أو إساءة، وذلك لما فى الصوم من الوفاء بذلك النقص لعظيم أجره، ولما فيه من تعديل للخلق وتقويم له، فيحمل صاحبه إلى عدم العودة إلى مثل تلك الإساءة أو التقصير، لما يورث فى صاحبه من التقوى.
إيجاب الصيام عقوبة على الإساءة فى المعاملات الاجتماعية:
وكما أوجب الله تعالى الصيام على الإساءة فى بعض العبادات وهى الحجج، فكذلك أوجبه على الإساءة فى بعض ما يجرى بين المسلمين من المعاملات وذلك كالإساءة بالقتل، أو الظهار، أو الحنث باليمين.
فإن الله تعالى أوجب على الإساءة فى هذه الأشياء كفارة لتكون جابرة لعظم تلك الذنوب ومقومة لأخلاق المسلم وسلوكه وجعلها موازية فى الشدة لعظم الجرم الذى اقترفه لتكون كفيلة بتقويم خلقه، وجابرة لعظم ذنبه. 1- فالقتل جريمة كبيرة يقترفها المرء فى حق أخيهن توجب له المقت والغضب، أو التخليد فى النار، لذلك أوجب الله تعالى فيه القصاص إن كان عمداً عدواناً، أو الدية إن رضى أولياء المقتول بها، وبالإضافة على الدية أوجب الله تعالى الكفارة العظمى، وهى عتق رقبة مؤمنة، فإن عجز عنها وجب الانتقال إلى صيام شهرين متتابعين، لا يقطعهما بفطر يوم واحد، فإن قطعهما بفطر يوم انقطع التتابع، ووجب الاستئناف، ما لم يكن هناك عذر شرعى مبيح للفطر كالحيض والنفاس مثلاً، وسواء فى هذه الكفارة القتل العمد والخطأ، وقتل المسلم أو الذمى، فيجب فى كل بالإضافة إلى الدية إن لم يكن قصاص، تلك الكفارة لقوله تعالى: َمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً - [النساء: 92].
فانظر كيف انتقل القرآن الكريم بالكفارة من العتق عند العجز عنه لتعذر الحصول عليه أو على قيمته إلى الصيام، وأى صيام؟ إنه صيام شهرين كاملين متتابعين، أى لا يفصل بينهما فطر، وذلك لتستل منه النزعة الوحشية، وتزكو أخلاقه، ولا ريب فإن صيام ستين يوماً متتابعة صياماً كاملاً محافظاً فيه على الآداب، كفيل بإعادة المرء إلى سلوك الإسلام وأخلاقه الحميدة، فإنه يحصل مثله بشهر، فكيف إذا كان الصيام شهرين متتابعين؟ 2
- والظهار – وهو قول الرجل لامرأته: أنت على كظهر أمى، أو نحوه، جريمة كبيرة(13) سماه الله تعالى (منكراً من القول وزوراً) لأنه إحالة حكم الله وتبديله بدون إذنه، لذلك كانت كفارته إذا لم يتبعه فوراً بالطلاق، كفارة عظمى وهى تحرير رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، كما بين الله تعالى ذلك بقوله: َالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ - [المجادلة: 3-4].
فأوجب الله عز وجل عند العجز عن تحرير الرقبة لفقدها أو فقد ثمنها، أو ارتفاعه عن حده، الانتقال إلى صيام شهرين متتابعين، وذلك لما فى هذا الصيام من الوفاء بحبر تلك الإساءة لعظم أجره، ولما فيه من تقويم للسلوك، وتهذيب للأخلاق، ولذلك اشترط فيه التتابع حتى يؤتى ثماره فى التزكية.
ولما كان الظهار قد يقع من الكبار الذين قد يعجزون عن القيام بصيام شهرين متتابعين، جعل الله تعالى لهم مندوحة فى الانتقال إلى إطعام ستين مسكيناً.
بخلافه فى القتل الذى غالباً ما يكون من الأقوياء، فإن الله لم ينص فيه على بدل عن الصيام، لما يريده لهم من الزكية فى الأخلاق، لأن تجرأهم على القتل يدل على انحطاط أخلاقه، وإن كان خطأ، فإنه يدل على التهاون فى الحذر والاحتياط لحماية النفس والله أعلم.
3- واليمين – وهو الحلف بالله او باسم من أسمائه أو صفة من صفاته الأخرى – حقه أن يحفظ، لما فى حفظه من إشعار بتعظيم الله تعالى وتبجيله، وكثرة الحلف تؤذن بأن القلب غير عامر بتعظيم الله وإجلاله كما ينبغى.
وقد أمر الله تعالى المؤمنين بأن يحفظوا إيمانهم فقال: وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ [المائدة: 89]، وحفظها هو أن يضن بها ولا يبذلها فى كل أمر، أو بأن يبر فيها ما استطاع إذا لم يفت بها خير، أو أن يكفر عند الحنث(14)، ونهاهم عن كثرة الحلف فقال: َلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ - [البقرة: 224]، وقال: وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً (15) بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا - [النحل: 94].
فإذا لم تفد هذه التوجيهات الإلهية من أوامر ونواه، فحقه أن يزجر، وذلك إذا لم يف بيمينه، وحنث فيها، بأن يكفر عن يمينه بما ذكره الله تعالى بقوله: لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ - [المائدة:89].
فجعل الصيام كفارة لليمين عند العجز عن الطعام أو العتق، وذلك لما فى الصيام من فضل يجبر الإساءة التى حصلت فى عدم الوفاء باليمين، وهو يهذب النفس ويزكى أخلاقها فى تعظيم الله تعالى وإجلاله كما يجب أن يكون على المؤمنين، على ما مر تقريره.
فترى أن الله تعالى أوجب الصيام فى مثل هذه الإساءات التى قد تحصل من المرء مما يكون فى عباداته أو معاملاته أو سلوكه، وجعله قرين المال الذى يكون إخراجه فى مثل هذه الأحوال على هيئة عتق أو إطعام، زاجراً للنفس عن العود إلى مثل تلك الإساءة لما جبلت عليه النفس من الشح فى المال، فله أبلغ الأثر فى استقامة الأخلاق والسلوك، وجعل الصوم بدلاً عنه؛ لأنه يؤدى ما تؤديه الكفارة بالمال من تقويم الأخلاق "فإنه يعدل القوى الطبيعية التى هى داعية الفساد، فيرتقى المسلم به عن حضيض الانغماس فى المادة، إلى أوج العالم الروحانى، فهو وسيلة للارتياض بالصفات الملكية والانتفاض من غبار الكدرات الحيوانية"(16).
تنويه القرآن العظيم بالصائمين والصائمات: ولما له من ذلك الأثر العظيم، والأجر الجسيم، كان تنويه القرآن الكريم بالمؤدين له، فى أوقات وجوبه، والمكثرين منه فيما سوى ذلك، تنويهاً عظيماً حيث كان يذكرهم على سبيل المدح والثناء والإشادة، وذلك كما فى قول الله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً - [الأحزاب:35].
فذكر الصائمين والصائمات ضمن أولئك الذين زكت أخلاقهم من المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، وامتازوا بالنبوغ فى الأخلاق العظيمة التى سرد ذكرها على سبيل المدح والثناء والامتنان.
وإنما ذكر الصائمين والصائمات فى سياق تعداده لأهل تلك المكارم الأخلاقية من قنوت وصدق وصبر وخشوع وكرم وعفاف وذكر لله، لأن الصيام الكامل يورث كل ذلك؛ لأن مثل تلك المكارم الأخلاقية العظيمة، إنما هى من ثمار التقوى التى يورثها الصوم، فلذلك سيق فى عدادها كأنه واحد منها، والله أعلم.
ولما كان الصيام بتلك المثابة، اختصه الله تعالى بالإضافة إليه كما جاء فى الحديث القدسى: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لى وأنا أجزى به ..."(17).
تطبيق النبى صلى الله عليه وسلم للصيام
ولما كان الصيام له تلك المكانة عند الله تعالى، وله ذلك الأثر فى التزكية، كان أحرص الخلق عليه، أكثرهم تقى، وأعظمهم خلقاً، وهو سيدنا ومولانا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يصوم صياماً يعجز عنه غيره بلا ريب، كما دلت على ذلك أحاديث كثيرة تدل على إكثاره منه، وحثه عليه، وتبيينه لآدابه وأحكامه، بحيث ينوء بها الحصر هنا.
إكثاره صلى الله عليه وسلم من الصيام:
فعن كثيرة صيامه تحدثنا عائشة – رضى الله عنها – وتقول:
1- "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، قالت: وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته فى شهر أكثر صياماً منه فى شعبان"(18).
2- وقال أنس –رضى الله عنه-: "ما كنت أحب أن أراه من الشهر صائماً إلا رأيته، ولا مفطراً إلا رأيتهن ولا من الليل قائماً إلا رأيته، قال: ولا مسست خزة ولا حريراً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت مسكة ولا عبيرة أطيب رائحة من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم(19).
3- وكذا قال ابن عباس – رضى الله عنهما: "ما صام النبى صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً قط غير رمضان، ويصوم حتى يقول القائل: لا والله لا يفطر، ويفطر حتى يقوم القائل: لا والله لا يصوم"(20).
فهؤلاء الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يصورون لنا صيام النبى صلى الله عليه وسلم، وأنه كان من الكثرة بحيث يقول الناظر له، والمتأمل لحاله: إن الصيام دأب له وعادة أو الإفطار كذلك لكثرة ما يصوم وكثرة ما يفطر.
(وذلك لأنه كان يصوم تارة من أول الشهر، وتارة من وسطه، وتارة من آخره، فكان من أراد أن يراه فى وقت من أوقات الشهر صائماً فراقبه المرة بعد المرة فلابد أن يصادفه صائماً، على وفق ما أراد أن يراه)(21).
صيامه صلى الله عليه وسلم أياماً بعينها:
الاثنين والخميس:
وكان مع ذلك يصوم أياماً بعينها من الأسبوع أو الشهر أو السنة.
1- "فكان عليه الصلاة والسلام يتحرى صيام يوم الاثنين والخميس"(22).
2- ويقول كما فى رواية أخرى: "تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملى وأنا صائم"(23).
ثلاثة أيام من الشهر:
3- وسئلت عائشة – رضى الله عنهما -: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟
قالت: نعم،
قيل لها: من أى أيام الشهر كان يصوم؟
قالت: لم يكن يبالى من أى أيام الشهر يصوم"(24).
4- وقالت عائشة – رضى الله عنها -: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر: السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر: الثلاثاء والأربعاء والخميس"(25).
5- وقال عبدالله بن مسعود – رضى الله عنه -: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من غرة كل شهر ثلاثة أيام"(26).
6- وقال عبدالله بن عباس – رضى الله عنهما-: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفطر أيام البيض فى حضر ولا سفر"(27).
وأيام البيض: هى الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من الشهر القمرى.
وكان يوصى بذلك أصحابه كما قال أبو هريرة – رضى الله عنه-:
7- أوصانى خليلى صلى الله عليه وسلم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتى الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام"(28).
إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على مواظبته صلى الله عليه وسلم على صيام أيام بعينها من كل شهر، وهى تدل على حرصه صلى الله عليه وسلم على الصيام ومواظبته عليه، ومحبته له.
8- ولقد دل على ذلك أيضاً قول أبى الدرداء(29) – رضى الله عنه-: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سفر فى يوم حار، حتى يضع الرجل يده على رأسه من شده الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله وعبد الله بن رواحة"(30).
فكونه صلى الله عليه وسلم يحرص على الصيام فى السفر، وهم فى تلك الحالة من الحر، وقد أباح الله تعالى الإفطار فيه بقوله سبحانه: َمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ - [البقرة: 184]، فكونه يصوم والحال ما ذكر يدل دلالة واضحة على عظيم رغبته فى الصوم، كما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ نفسه بعزائم الأمور، مالم يغلب جانب بيان الشرع، فإنه حينئذ يأخذ بالرخص وما فيه رفق بالمسلمين كما فعل فى غزوة الفتح، وكانت فى رمضان من العام الثامن، حيث صام حتى بلغ الكديد(31)، ثم أفطر وافطر الناس معه(32).
مواصلته صلى الله عليه وسلم للصوم:
ولتلك الرغبة الكاملة والمحبة العظيمة من النبى صلى الله عليه وسلم للصوم، كان يواصل الصوم الأيام بالليالى "ليوفر ساعات ليله ونهاره للعبادة"(33)، والأدلة على ذلك كثيرة:
1- فعن أبى هريرة – رضى الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والوصال، إياكم والوصال، قالوا: فإنك تواصل يا رسوم الله، قال: إنى أبيت يطعمنى ربى ويسقينى، فاكلفوا(34) من العمل ما تطيقون"(35).
2- وعن أنس – رضى الله عنه – قال: واصل رسول الله صلى الله عليه وسلم فى آخر شهر رمضان، فواصل ناس من المسلمين، فبلغه ذلك فقال: "لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم(36)، إنكم لستم مثلى، أو قال: لست مثلكم، إنى أظل يطعمنى ربى ويسقينى"(37).
3- دخل على النبى صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: هل عندكم من شئ؟
فقلنا: لا
قال: فإنى إذا صائم،
ثم أتانا يوماً آخر فقلنا: يا رسوم الله أهدى لنا حيس،
فقال: أرينيه فلقد أصبحت صائماً فأكل"(38).
4- وفى رواية قالت: كان النبى صلى الله عليه وسلم يأتينى فيقول: أعندك غداء؟
فأقول: لا، فيقول: إنى صائم،
قالت: فأتانى يوماً فقلت: يا رسول الله إنه قد أهديت لنا هدية،
قال: وما هى؟
قلت: حيس،
قال: أما إنى قد أصبحت صائماً ثم أكل"(39).
فهكذا كان صوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كانت رغبته فيه.
وما ذلك إلا لما يعلمه فى الصوم من عظيم الفضل، وكبير الأجر، وبليغ الأثر فى تهذيب النفس، وتزكية الخلق، وهو ما كان يعبر عنه صلى الله عليه وسلم بلسانه الشريف ليحثهم عليه ويرغبهم فيه.
من أقواله صلى الله عليه وسلم الدالة على فضل الصوم والمرغبة فيه:
وأقواله فى ذلك كثيرة جداً، ومن ذلك فى بيان فضله: قوله علية الصلاة والسلام:
1- "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"(40). ومعنى إيماناً: تصديقاً واعتقاداً بأحقية فرضية صومه، ومعنى احتساباً: طلب الثواب من الله(41).
2- وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يصوم يوماً فى سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً"(42)، أى: مدة سير سبعين عاماً.
3- وقوله فيما يرويه عن ربه عز وجل: "كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: "إلا الصوم فإنه لى وأنا أجزى به يدع شهوته وطعامه من أجلى، للصائم فرحتان؛ فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف(43) فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"(44).
حثه صلى الله عليه وسلم على فضل صيام أيام بعينها:
وكان عليه الصلاة والسلام يبين فضل صيام أيام بعينها كيوم عرفة، ويوم عاشوراء، وست أيام من شوال، وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:
1- "ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان، فهذا صيام الدهر كله، صيام عرفة احتسب على الله أن يكفر السنة التى قبله، والسنة التى بعده، وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التى قبله"(45).
2- وقوله صلى الله عليه وسلم فى صيام ست من شوال: "من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال فذلك صيام الدهر"(46). أى: أجره كأجر صيام سنة كاملة لأن الحسنة بعشرة أمثالها. إلى غير ذلك من حثه صلى الله علية وسلم على صيام أيام بعينها مما هو مبين فى مظانه.
بيانه صلى الله عليه وسلم لما فى الصوم من تزكية للأخلاق:
وقد كان عليه الصلاة والسلام يبين لأمته ما يفعله الصوم من تزكية للأخلاق، ويحثهم على ما يعين على ذلك فيقول:
1- "الصيام جنة"(47)، ومعنى كونه جنة: أى وقاية تقى صاحبها ما يؤذيه من الشهوات(48).
وذلك لأنه إمساك عن الشهوات، والنار محفوفة بالشهوات، فإذا كف المرء نفسه عن الشهوات فى الدنيا كان ذلك ساتراً له عن النار فى الآخرة(49).
ولذلك كان عليه الصلاة والسلام ينهى أمته عن أن تهتك أستاره وتفعل ما يفسد هذه الوقاية من المحرمات فيقول:
2- ".. فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث(50) يومئذ ولا يسخب(51) فإن سابه أحد أو قاتلة فليقل: إنى أمرؤ صائم .."(52).
3- ويقول: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه"(53).
وذلك لأن المقصود من شرعية الصوم "ليس هو نفس الجوع والعطش، بل ما يتبعه من كسر الشهوات وتطويع النفس الأمارة بالسوء، فإذا لم يحصل ذلك لا ينظر الله إليه نظرة قبول"(54)، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام.
4- "رب صائم ليس له من صيامه إلى الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر"(55).
5- وفى حديث آخر قال: "رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر"(56). والمعنى: أن من الناس من لم يستفد من صومه، فلم يؤثر فيه تهذيباً للنفس، وتزكية للأخلاق، وذلك من لم يصن صومه عن مفسداته الحسية أو المعنوية، فراح يرفث ويفسق، وكان عليه إذا أراد أن ينال ثمرة الصوم وأجره أن يصونه عن اللغو والرفث والفسوق والعصيان كما قال صلى الله عليه وسلم:
6- "ليس الصيام من الأكل والشراب، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك أحد أو جهل عليك فقل: إنى صائم، إنى صائم"(57).
والمعنى: أن الصوم لا يكون بالإمساك عن الأكل والشرب فقط، بل لابد أن يصحبه أيضاً إمساك عما ذكر من اللغو والرفث؛ لأن ذلك من غايات الصيام المهمة، والله الموفق والهادى لأحسن الأخلاق لا يهدى لأحسنها إلا هو.
قال أبو عبيده(1): كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم"(2).
أما شرعاً فهو: عبارة عن إمساك مخصوص، وهو الإمساك عن الأكل والشرف والجماع من الصبح إلى المغرب مع النية(3).
ويقال أيضاً: الإمساك عن المفطرات الحسية والمعنوية جميع النهار بنية.
علاقة الصيام بالأخلاق
الصوم من شرائع الإسلام العظيمة التى شرعها الله تعالى للأمة الإسلامية كما شرعة على من قبلها، وهو من الشرائع الرامية إلى تزكية النفس ورياضيتها على مكارم الأخلاق من القناعة والزهد والأمانة، والبعد عن رذائلها من الجشع والخيانة والسباب والفواح التى تنافى الصوم.
قال العلامة جمال الدين القاسمى(4): "إعلم ان مصالح الصوم لما كانت مشهودة بالعقول السليمة، والفطر المستقيمة شرعه الله لعباده رحمة لهم، وإحساناً إليهم وحمية وجنة، قال: فإن مقصود الصيام حبس النفس عن الشهوات، وفطمها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية لتسعد بطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية، ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وسورتها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين، وتضييق مجارى الشيطان من العبد، بتضييق مجارى الطعام والشراب، وحبس قوى الأعضاء من استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها فى معاشها ومعادها، ويسكن كل عضو منها، وكل قوة عن جماحها، وتلجم بلجامه فهو لجام المتعين، وجنة المجاهدين، ورياضة الأبرار المقربين، وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال، فإن الصائم لا يفعل شيئاً، إنما ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وملذوذاتها إيثاراً لمحبة الله ومرضاته، وهو سر بين العبد وربه لا يطلع عليه سواه"(5).
قلت: وهذا ما يدل عليه قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ - [البقرة: 183]
إذ دلت الآية على أن الصوم يورث التقوى، كما يفيده تعليل فريضة الصوم به، والمعنى: ليحصل لكم التقوى بالصوم فإنه يورث التقوى لما فيه من انكسار الشهوة، وانقماع الهوى، فإنه يردع عن الأشر والبطر والفواحش، ويهون لذات الدنيا ورياستها، ويكسر شهوة البطن والفرج، وذلك جامع لأسباب التقوى، قال الفخر الرازى: " فيكون معنى الآية: فرضت عليكم الصيام لتكونوا به من المتقين الذين أثنيت عليهم فى كتابى"(6). "ولعل فى مقام الله جل جلاله تفيد الوجوب، لأنها وإن كانت للترجى والإطماع فى أصل وضعها، إلا أنه إطماع من كريم فيجرى مجرى وعده المحتوم وفاؤه"(7).
والتقوى التى يثمرها الصوم قد علق الله تعالى عليها خيرات عظيمة، وسعادات جسيمة فى كتابه العزيز، منها: معيته التى تعنى الحفظ واللطف كما قال تعالى: وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ - [البقرة: 194].
ومنها: العلم اللذنى كما قل جل شأنه: وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ - [البقرة: 282].
ومنها: المخرج من كل شدة، وتيسير الرزق من حيث لا يحتسب المرء كما قال تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ - [الطلاق: 2-3].
ومنها: تكفير السيئات وتعظيم أجر الحسنات كما قال سبحانه: ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً - [الطلاق: 5].
إلى غير ذلك من الخيرات الجسيمة المترتبة على التقوى التى أشار إليها القرآن الكريم والتى جعل الصيام من أسباب حصولها، لكونه موجباً لاتقاء المعاصى؛ لأنه يعدل القوى الطبيعية التى هى داعية الفساد، فيرتقى المسلم به عن حضيض الانغماس فى المادة إلى أوج العام الروحانى، فهو وسيلة للارتياض بالصفات الملكية، والانتفاض من غبار الكدرات الحيوانية(9).
عناية القرآن الكريم بالصيام
ولأجل ذلك الأثر العظيم الذى يثمره الصوم فى ذكاء الأخلاق، كانت عناية القرآن الكريم به كبيرة إيجاباً له فى رمضان وفى غيره، وحثاً عليه، وتنويهاً بأهله فى آيات كثيرة.
إيجاب الصيام فى القرآن الكريم:
أما إيجاب الصيام فإنه لما كان على ذلك النحو من عظمة الأثر فى تزكية الأخلاق، وترويض النفس على مكارمها، وكان شاقاً على النفس لما فيه من كبح لجماحها، واسترسالها فى اللذات والشهوات، أو لما يشغلها عنه من واجبات الحياة، المقتضية لإشباع البطن بما تحتاجه من الأكل ونحوه، فكانت الدواعى إلى تركه قائمة وكبيرة، مع عظيم أهميته وبالغ أثره وكبير ثمرته.
لما كان الأمر كذلك، جعل الله تعالى الصيام فريضة إلزامية، وركناً رابعاً من أركان الإسلام فقال تعالى: َا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ - [البقرة: 183-185].
ففى هذه الآيات يبين الله تعالى لعبادة أنه افترض عليهم الصيام فى أيام معدودات قلائل، هى شهر رمضان، الذى اختصه من بين الشهور بإنزال القرآن فيه، وبليلة القدر التى هى خير من ألف شهر.
وقد بين افتراضه عليهم أولاً بأسلوب الخبر، وثانياً: بصيغة الأمر، وذلك للدلالة على أهمية ذلك المفترض وحتميته، ولذلك لم يكن لأحد عذر فى ترك صيام هذا الشهر إلا إلى بدل من صيام أيام أخر، أو فدية إطعام بعدد الأيام عند العجز عن الصيام كلية، لكبر أو مرض مزمن لا يرجى برؤه، وفى تكرار التنصيص على (عدة من أيام أخر) عند العجز عن صيام أيام رمضان كلها أو بعضها، دلالة على تأكيد طلب الشارع له، وعدم تنازله عن مطالبة المسلمين به إلا فى حالة العجز المستمر من كبر أو مرض أو حمل أو إرضاع، كما دلت عليه السنة، فعندئذ أجاز الانتقال إلى الفدية، وذلك لما فى الصوم من عظيم الفائدة فى إصلاح النفس البشرية واستقامة أحوال الأمة الإسلامية.
حثه عليه:
ولذلك لم يفتأ يذكرهم بهذه الفائدة حيث يقوم فى علية الصوم (لعلكم تتقون) (لعلكم تشكرون)، ويرشد أهل الأعذار بترك الصيام بقوله: (وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون)، أى عظيم الأجر وجليل ثمرة الصوم فى استقامة الأحوال وكرم الأخلاق.
ويقول لهم: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) للدلالة على أنه ما حمله على الترخيص بالإفطار عند الأعذار، إلا إرادة اليسر بهم تمشياً مع أصل منهجه فى تيسير الشريعة، وإلا لم يكن ليعدل عن طلبه بالذات حتى عند العجز عنه، لما يعلمه فيه من عظيم الأجر والأثر فى الدنيا والآخرة والله أعلم.
إيجابه فى غير رمضان ليكون كفارة عن الإساءات
ولما كان الصيام بهذه المثابة من عظيم الفائدة وجزيل العائدة، اختاره الشارع لأن يكون كفارة وجبراً لبعض الإساءات المخلة بالدين، التى قد يرتكبها المرء فى حياته فى عباداته أو معاملاته أو سلوكه، وذلك ليهذب النفوس ويربيها على عدم العودة إلى مثل تلك الإساءات، لما فى الصوم من كبح لزمام النفس الأمارة بالسوء، وإعادة لها إلى الطهارة والنقاء والتزكية، إن كان مستوفياً لشروطه وآدابه الآتى بيانها فى التطبيق إن شاء الله تعالى.
ففى ما يتعلق بالإساءة فى العبادات، وذلك فى الحج، أوجبه فى موضعين:
الموضوع الأول: فى الإساءة فى الحج بارتكاب محظور من محظورات الإحرام كالحلق ونحوه، أو قتل صيد الحرم، أو أى صيد برى وهو محرم.
الموضع الثانى: عند الترفه فى الحج بالتمتع أو القران(10) حيث يعجز عن الهدى.
أما الموضع الأول، وهو الإساءة فى الحج بفعل محرم من محرماته التى هى من باب الإزالة أو الترفه كالحلق والطيب ونحوهما(11)، فقد أوجب الله تعالى جبر ذلك بواحد من ثلاثة أشياء على التخيير: الصيام أو الإطعام أو الذبح، وذلك بقوله سبحانه: َمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ - [البقرة: 196].
فجعل الصيام أولها؛ لأنه أعظم الثلاثة أثراً فى استقامة السلوك فى المستقبل، إضافة إلى عظم أجره، وهذا فيما إذا كانت الإساءة بفعل شئ يتعلق بجسده.
أما إذا كانت الإساءة بفعل محرم من محرمات الإحرام المتعلقة بغيره، مما يؤذن انتهاكها بعدم تعظيمه لشعيرة الحرم أو الإحرام، وذلك كقتل صيد البر وهو محرم، أو قتل صيد الحرم مطلقاً، فقد أوجب الله تعالى واحداً من ثلاثة أمور مرتبة: هدياً بالغ الكعبة إن كان الصيد مما له مثل فى بهيمة الأنعام، فإن لم يكن له مثل فيقوم الصيد اثنان ذوا عدل، ويخرج القيمة فيشترى بها طعاماً يصرفه على مساكين الحرم، لكل مسكين مد.
فإن عجز عن ذلك عدل إلى الصيام فيصوم بعدد الإمداد التى تبلغها القيمة المقدرة للصيد مهما بلغت كثرة، كما دل على ذلك قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ - [المائدة: 95].
فجعل الصيام واحداً مما يفدى به عن تلك الإساءة، وجعله منوطاً بعدد الإمداد التى كان يمكن للقيمة المقدرة لو وجدت أن تشتريها، ومعلوم أنه قد يكون الطعام رخيصاً كما فى هذه الأيام، فكم تبلغ الإمداد لو كانت القيمة مائة أو مائتين أو أكثر؟ لاسيما مع ارتفاع أسعار مثل هذه الحيوانات البرية من صيد ونحوه كما هو معلوم وملموس.
لذلك كان هذا الجزاء وبالاً على صاحبه، أى ثقيلاً وشديداً عليه، ولكنه يتلاءم مع سوء الصنيع الذى اقترفه من هتك حرمة الحرم أو الإحرام.
وإنما اختار الله هذا الجزاء الثقيل ليكون ثوابه جابراً لما انتهك من حرمة، وليقوم سلوك المرء مستقبلاً، ولذلك إذا لم يستقيم سلوكه بعد هذا الجزاء المؤلم الثقيل فعاد إلى انتهاك حرمة الإحرام، فإن الله تعالى قد آذنه بعقوبة لا طاقة له بها، وهى الانتقام (ومن عاد فينتقم الله منه) لأنه بعدئذ يكون معوج السلوك، لا يصلح إلا بالجزاءات الرادعة المربية، وصدق الله إذ يقول: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ - [المائدة: 50].
أما الموضع الثانى، وهو ما إذا عجز عن هدى التمتع ومثله القرآن، فإن الله تعالى قد جعل له بدلاً عن ذلك، وهو صيام ثلاثة أيام فى الحج وسبعة إذا رجع إلى بلده كما قال سبحانه: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ - [البقرة: 196].
فجعل الصيام بدلاً عن الهدى عند فقده أو العجز عنه، لما فى الصيام من الكفاية والسداد لما يؤديه الهدى من الجبران، ولذلك قال: (كاملة) "أى: كاملة فى الثواب لسدها مسد الهدى فى المعنى الذى جعلت بدلاً عنه"(12).
فانظر كيف جعل الصيام جابراً لما يقع فى النسك من تقصير أو إساءة، وذلك لما فى الصوم من الوفاء بذلك النقص لعظيم أجره، ولما فيه من تعديل للخلق وتقويم له، فيحمل صاحبه إلى عدم العودة إلى مثل تلك الإساءة أو التقصير، لما يورث فى صاحبه من التقوى.
إيجاب الصيام عقوبة على الإساءة فى المعاملات الاجتماعية:
وكما أوجب الله تعالى الصيام على الإساءة فى بعض العبادات وهى الحجج، فكذلك أوجبه على الإساءة فى بعض ما يجرى بين المسلمين من المعاملات وذلك كالإساءة بالقتل، أو الظهار، أو الحنث باليمين.
فإن الله تعالى أوجب على الإساءة فى هذه الأشياء كفارة لتكون جابرة لعظم تلك الذنوب ومقومة لأخلاق المسلم وسلوكه وجعلها موازية فى الشدة لعظم الجرم الذى اقترفه لتكون كفيلة بتقويم خلقه، وجابرة لعظم ذنبه. 1- فالقتل جريمة كبيرة يقترفها المرء فى حق أخيهن توجب له المقت والغضب، أو التخليد فى النار، لذلك أوجب الله تعالى فيه القصاص إن كان عمداً عدواناً، أو الدية إن رضى أولياء المقتول بها، وبالإضافة على الدية أوجب الله تعالى الكفارة العظمى، وهى عتق رقبة مؤمنة، فإن عجز عنها وجب الانتقال إلى صيام شهرين متتابعين، لا يقطعهما بفطر يوم واحد، فإن قطعهما بفطر يوم انقطع التتابع، ووجب الاستئناف، ما لم يكن هناك عذر شرعى مبيح للفطر كالحيض والنفاس مثلاً، وسواء فى هذه الكفارة القتل العمد والخطأ، وقتل المسلم أو الذمى، فيجب فى كل بالإضافة إلى الدية إن لم يكن قصاص، تلك الكفارة لقوله تعالى: َمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً - [النساء: 92].
فانظر كيف انتقل القرآن الكريم بالكفارة من العتق عند العجز عنه لتعذر الحصول عليه أو على قيمته إلى الصيام، وأى صيام؟ إنه صيام شهرين كاملين متتابعين، أى لا يفصل بينهما فطر، وذلك لتستل منه النزعة الوحشية، وتزكو أخلاقه، ولا ريب فإن صيام ستين يوماً متتابعة صياماً كاملاً محافظاً فيه على الآداب، كفيل بإعادة المرء إلى سلوك الإسلام وأخلاقه الحميدة، فإنه يحصل مثله بشهر، فكيف إذا كان الصيام شهرين متتابعين؟ 2
- والظهار – وهو قول الرجل لامرأته: أنت على كظهر أمى، أو نحوه، جريمة كبيرة(13) سماه الله تعالى (منكراً من القول وزوراً) لأنه إحالة حكم الله وتبديله بدون إذنه، لذلك كانت كفارته إذا لم يتبعه فوراً بالطلاق، كفارة عظمى وهى تحرير رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، كما بين الله تعالى ذلك بقوله: َالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ - [المجادلة: 3-4].
فأوجب الله عز وجل عند العجز عن تحرير الرقبة لفقدها أو فقد ثمنها، أو ارتفاعه عن حده، الانتقال إلى صيام شهرين متتابعين، وذلك لما فى هذا الصيام من الوفاء بحبر تلك الإساءة لعظم أجره، ولما فيه من تقويم للسلوك، وتهذيب للأخلاق، ولذلك اشترط فيه التتابع حتى يؤتى ثماره فى التزكية.
ولما كان الظهار قد يقع من الكبار الذين قد يعجزون عن القيام بصيام شهرين متتابعين، جعل الله تعالى لهم مندوحة فى الانتقال إلى إطعام ستين مسكيناً.
بخلافه فى القتل الذى غالباً ما يكون من الأقوياء، فإن الله لم ينص فيه على بدل عن الصيام، لما يريده لهم من الزكية فى الأخلاق، لأن تجرأهم على القتل يدل على انحطاط أخلاقه، وإن كان خطأ، فإنه يدل على التهاون فى الحذر والاحتياط لحماية النفس والله أعلم.
3- واليمين – وهو الحلف بالله او باسم من أسمائه أو صفة من صفاته الأخرى – حقه أن يحفظ، لما فى حفظه من إشعار بتعظيم الله تعالى وتبجيله، وكثرة الحلف تؤذن بأن القلب غير عامر بتعظيم الله وإجلاله كما ينبغى.
وقد أمر الله تعالى المؤمنين بأن يحفظوا إيمانهم فقال: وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ [المائدة: 89]، وحفظها هو أن يضن بها ولا يبذلها فى كل أمر، أو بأن يبر فيها ما استطاع إذا لم يفت بها خير، أو أن يكفر عند الحنث(14)، ونهاهم عن كثرة الحلف فقال: َلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ - [البقرة: 224]، وقال: وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً (15) بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا - [النحل: 94].
فإذا لم تفد هذه التوجيهات الإلهية من أوامر ونواه، فحقه أن يزجر، وذلك إذا لم يف بيمينه، وحنث فيها، بأن يكفر عن يمينه بما ذكره الله تعالى بقوله: لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ - [المائدة:89].
فجعل الصيام كفارة لليمين عند العجز عن الطعام أو العتق، وذلك لما فى الصيام من فضل يجبر الإساءة التى حصلت فى عدم الوفاء باليمين، وهو يهذب النفس ويزكى أخلاقها فى تعظيم الله تعالى وإجلاله كما يجب أن يكون على المؤمنين، على ما مر تقريره.
فترى أن الله تعالى أوجب الصيام فى مثل هذه الإساءات التى قد تحصل من المرء مما يكون فى عباداته أو معاملاته أو سلوكه، وجعله قرين المال الذى يكون إخراجه فى مثل هذه الأحوال على هيئة عتق أو إطعام، زاجراً للنفس عن العود إلى مثل تلك الإساءة لما جبلت عليه النفس من الشح فى المال، فله أبلغ الأثر فى استقامة الأخلاق والسلوك، وجعل الصوم بدلاً عنه؛ لأنه يؤدى ما تؤديه الكفارة بالمال من تقويم الأخلاق "فإنه يعدل القوى الطبيعية التى هى داعية الفساد، فيرتقى المسلم به عن حضيض الانغماس فى المادة، إلى أوج العالم الروحانى، فهو وسيلة للارتياض بالصفات الملكية والانتفاض من غبار الكدرات الحيوانية"(16).
تنويه القرآن العظيم بالصائمين والصائمات: ولما له من ذلك الأثر العظيم، والأجر الجسيم، كان تنويه القرآن الكريم بالمؤدين له، فى أوقات وجوبه، والمكثرين منه فيما سوى ذلك، تنويهاً عظيماً حيث كان يذكرهم على سبيل المدح والثناء والإشادة، وذلك كما فى قول الله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً - [الأحزاب:35].
فذكر الصائمين والصائمات ضمن أولئك الذين زكت أخلاقهم من المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، وامتازوا بالنبوغ فى الأخلاق العظيمة التى سرد ذكرها على سبيل المدح والثناء والامتنان.
وإنما ذكر الصائمين والصائمات فى سياق تعداده لأهل تلك المكارم الأخلاقية من قنوت وصدق وصبر وخشوع وكرم وعفاف وذكر لله، لأن الصيام الكامل يورث كل ذلك؛ لأن مثل تلك المكارم الأخلاقية العظيمة، إنما هى من ثمار التقوى التى يورثها الصوم، فلذلك سيق فى عدادها كأنه واحد منها، والله أعلم.
ولما كان الصيام بتلك المثابة، اختصه الله تعالى بالإضافة إليه كما جاء فى الحديث القدسى: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لى وأنا أجزى به ..."(17).
تطبيق النبى صلى الله عليه وسلم للصيام
ولما كان الصيام له تلك المكانة عند الله تعالى، وله ذلك الأثر فى التزكية، كان أحرص الخلق عليه، أكثرهم تقى، وأعظمهم خلقاً، وهو سيدنا ومولانا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يصوم صياماً يعجز عنه غيره بلا ريب، كما دلت على ذلك أحاديث كثيرة تدل على إكثاره منه، وحثه عليه، وتبيينه لآدابه وأحكامه، بحيث ينوء بها الحصر هنا.
إكثاره صلى الله عليه وسلم من الصيام:
فعن كثيرة صيامه تحدثنا عائشة – رضى الله عنها – وتقول:
1- "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، قالت: وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته فى شهر أكثر صياماً منه فى شعبان"(18).
2- وقال أنس –رضى الله عنه-: "ما كنت أحب أن أراه من الشهر صائماً إلا رأيته، ولا مفطراً إلا رأيتهن ولا من الليل قائماً إلا رأيته، قال: ولا مسست خزة ولا حريراً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت مسكة ولا عبيرة أطيب رائحة من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم(19).
3- وكذا قال ابن عباس – رضى الله عنهما: "ما صام النبى صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً قط غير رمضان، ويصوم حتى يقول القائل: لا والله لا يفطر، ويفطر حتى يقوم القائل: لا والله لا يصوم"(20).
فهؤلاء الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يصورون لنا صيام النبى صلى الله عليه وسلم، وأنه كان من الكثرة بحيث يقول الناظر له، والمتأمل لحاله: إن الصيام دأب له وعادة أو الإفطار كذلك لكثرة ما يصوم وكثرة ما يفطر.
(وذلك لأنه كان يصوم تارة من أول الشهر، وتارة من وسطه، وتارة من آخره، فكان من أراد أن يراه فى وقت من أوقات الشهر صائماً فراقبه المرة بعد المرة فلابد أن يصادفه صائماً، على وفق ما أراد أن يراه)(21).
صيامه صلى الله عليه وسلم أياماً بعينها:
الاثنين والخميس:
وكان مع ذلك يصوم أياماً بعينها من الأسبوع أو الشهر أو السنة.
1- "فكان عليه الصلاة والسلام يتحرى صيام يوم الاثنين والخميس"(22).
2- ويقول كما فى رواية أخرى: "تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملى وأنا صائم"(23).
ثلاثة أيام من الشهر:
3- وسئلت عائشة – رضى الله عنهما -: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟
قالت: نعم،
قيل لها: من أى أيام الشهر كان يصوم؟
قالت: لم يكن يبالى من أى أيام الشهر يصوم"(24).
4- وقالت عائشة – رضى الله عنها -: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر: السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر: الثلاثاء والأربعاء والخميس"(25).
5- وقال عبدالله بن مسعود – رضى الله عنه -: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من غرة كل شهر ثلاثة أيام"(26).
6- وقال عبدالله بن عباس – رضى الله عنهما-: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفطر أيام البيض فى حضر ولا سفر"(27).
وأيام البيض: هى الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من الشهر القمرى.
وكان يوصى بذلك أصحابه كما قال أبو هريرة – رضى الله عنه-:
7- أوصانى خليلى صلى الله عليه وسلم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتى الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام"(28).
إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على مواظبته صلى الله عليه وسلم على صيام أيام بعينها من كل شهر، وهى تدل على حرصه صلى الله عليه وسلم على الصيام ومواظبته عليه، ومحبته له.
8- ولقد دل على ذلك أيضاً قول أبى الدرداء(29) – رضى الله عنه-: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سفر فى يوم حار، حتى يضع الرجل يده على رأسه من شده الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله وعبد الله بن رواحة"(30).
فكونه صلى الله عليه وسلم يحرص على الصيام فى السفر، وهم فى تلك الحالة من الحر، وقد أباح الله تعالى الإفطار فيه بقوله سبحانه: َمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ - [البقرة: 184]، فكونه يصوم والحال ما ذكر يدل دلالة واضحة على عظيم رغبته فى الصوم، كما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ نفسه بعزائم الأمور، مالم يغلب جانب بيان الشرع، فإنه حينئذ يأخذ بالرخص وما فيه رفق بالمسلمين كما فعل فى غزوة الفتح، وكانت فى رمضان من العام الثامن، حيث صام حتى بلغ الكديد(31)، ثم أفطر وافطر الناس معه(32).
مواصلته صلى الله عليه وسلم للصوم:
ولتلك الرغبة الكاملة والمحبة العظيمة من النبى صلى الله عليه وسلم للصوم، كان يواصل الصوم الأيام بالليالى "ليوفر ساعات ليله ونهاره للعبادة"(33)، والأدلة على ذلك كثيرة:
1- فعن أبى هريرة – رضى الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والوصال، إياكم والوصال، قالوا: فإنك تواصل يا رسوم الله، قال: إنى أبيت يطعمنى ربى ويسقينى، فاكلفوا(34) من العمل ما تطيقون"(35).
2- وعن أنس – رضى الله عنه – قال: واصل رسول الله صلى الله عليه وسلم فى آخر شهر رمضان، فواصل ناس من المسلمين، فبلغه ذلك فقال: "لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم(36)، إنكم لستم مثلى، أو قال: لست مثلكم، إنى أظل يطعمنى ربى ويسقينى"(37).
3- دخل على النبى صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: هل عندكم من شئ؟
فقلنا: لا
قال: فإنى إذا صائم،
ثم أتانا يوماً آخر فقلنا: يا رسوم الله أهدى لنا حيس،
فقال: أرينيه فلقد أصبحت صائماً فأكل"(38).
4- وفى رواية قالت: كان النبى صلى الله عليه وسلم يأتينى فيقول: أعندك غداء؟
فأقول: لا، فيقول: إنى صائم،
قالت: فأتانى يوماً فقلت: يا رسول الله إنه قد أهديت لنا هدية،
قال: وما هى؟
قلت: حيس،
قال: أما إنى قد أصبحت صائماً ثم أكل"(39).
فهكذا كان صوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كانت رغبته فيه.
وما ذلك إلا لما يعلمه فى الصوم من عظيم الفضل، وكبير الأجر، وبليغ الأثر فى تهذيب النفس، وتزكية الخلق، وهو ما كان يعبر عنه صلى الله عليه وسلم بلسانه الشريف ليحثهم عليه ويرغبهم فيه.
من أقواله صلى الله عليه وسلم الدالة على فضل الصوم والمرغبة فيه:
وأقواله فى ذلك كثيرة جداً، ومن ذلك فى بيان فضله: قوله علية الصلاة والسلام:
1- "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"(40). ومعنى إيماناً: تصديقاً واعتقاداً بأحقية فرضية صومه، ومعنى احتساباً: طلب الثواب من الله(41).
2- وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يصوم يوماً فى سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً"(42)، أى: مدة سير سبعين عاماً.
3- وقوله فيما يرويه عن ربه عز وجل: "كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: "إلا الصوم فإنه لى وأنا أجزى به يدع شهوته وطعامه من أجلى، للصائم فرحتان؛ فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف(43) فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"(44).
حثه صلى الله عليه وسلم على فضل صيام أيام بعينها:
وكان عليه الصلاة والسلام يبين فضل صيام أيام بعينها كيوم عرفة، ويوم عاشوراء، وست أيام من شوال، وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:
1- "ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان، فهذا صيام الدهر كله، صيام عرفة احتسب على الله أن يكفر السنة التى قبله، والسنة التى بعده، وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التى قبله"(45).
2- وقوله صلى الله عليه وسلم فى صيام ست من شوال: "من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال فذلك صيام الدهر"(46). أى: أجره كأجر صيام سنة كاملة لأن الحسنة بعشرة أمثالها. إلى غير ذلك من حثه صلى الله علية وسلم على صيام أيام بعينها مما هو مبين فى مظانه.
بيانه صلى الله عليه وسلم لما فى الصوم من تزكية للأخلاق:
وقد كان عليه الصلاة والسلام يبين لأمته ما يفعله الصوم من تزكية للأخلاق، ويحثهم على ما يعين على ذلك فيقول:
1- "الصيام جنة"(47)، ومعنى كونه جنة: أى وقاية تقى صاحبها ما يؤذيه من الشهوات(48).
وذلك لأنه إمساك عن الشهوات، والنار محفوفة بالشهوات، فإذا كف المرء نفسه عن الشهوات فى الدنيا كان ذلك ساتراً له عن النار فى الآخرة(49).
ولذلك كان عليه الصلاة والسلام ينهى أمته عن أن تهتك أستاره وتفعل ما يفسد هذه الوقاية من المحرمات فيقول:
2- ".. فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث(50) يومئذ ولا يسخب(51) فإن سابه أحد أو قاتلة فليقل: إنى أمرؤ صائم .."(52).
3- ويقول: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه"(53).
وذلك لأن المقصود من شرعية الصوم "ليس هو نفس الجوع والعطش، بل ما يتبعه من كسر الشهوات وتطويع النفس الأمارة بالسوء، فإذا لم يحصل ذلك لا ينظر الله إليه نظرة قبول"(54)، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام.
4- "رب صائم ليس له من صيامه إلى الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر"(55).
5- وفى حديث آخر قال: "رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر"(56). والمعنى: أن من الناس من لم يستفد من صومه، فلم يؤثر فيه تهذيباً للنفس، وتزكية للأخلاق، وذلك من لم يصن صومه عن مفسداته الحسية أو المعنوية، فراح يرفث ويفسق، وكان عليه إذا أراد أن ينال ثمرة الصوم وأجره أن يصونه عن اللغو والرفث والفسوق والعصيان كما قال صلى الله عليه وسلم:
6- "ليس الصيام من الأكل والشراب، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك أحد أو جهل عليك فقل: إنى صائم، إنى صائم"(57).
والمعنى: أن الصوم لا يكون بالإمساك عن الأكل والشرب فقط، بل لابد أن يصحبه أيضاً إمساك عما ذكر من اللغو والرفث؛ لأن ذلك من غايات الصيام المهمة، والله الموفق والهادى لأحسن الأخلاق لا يهدى لأحسنها إلا هو.